14/02/2022 - 14:27

البعض خُلِقَ ليعيش وحيدًا | ترجمة

البعض خُلِقَ ليعيش وحيدًا | ترجمة

 

العنوان بالإنجليزيّة: Some People are Meant to Live Alone. 

ترجمة: أسماء حسين. 

 

البعض خُلِقَ ليعيش وحيدًا. خذ مثلًا العمّ آرثر الّذي كان يناديه الجميع بالعمّ آرثر رغم أنّه لم يكن عمّ أحدنا. في الواقع كان أشبه بابن عمومة كهل وأقرب إلى أسطورة عائليّة. "سأرسلك إلى العيش مع العمّ آرثر"، أو "أسبوع برفقة العمّ آرثر قد يكون مفيدًا" كان وعيد أمّي لمن صَعُبَ مراسه منّا. لم يكن العمّ آرثر يترائى لعيوننا الطفوليّة كغول أو كشخص مقيت، على العكس من ذلك، لم أر ألطف من ذلك الرجل الضئيل الّذي كان تردّده على بيتنا قليلًا ومتباعدًا في حينها. كلّ ما في الأمر أنّه عاش وحيدًا في المنزل العتيق المهلهل على التلّة، والّذي كنّا نستطيع رؤيته في وقت حصاد خيزرانات قصب السكر، البيت الّذي يلوح في الأفق هزيلًا ومائلًا وراء الشجرتين الضخمتين المتشابكتين دائمتيّ الخضرة، واللّتان لطالما أضافتا مسحةً من غموض على عزلته العصيّة على الفهم. لم يكن أحدنا هناك أبدًا. لم يدعُ العمّ آرثر أحدًا إلى بيته من قبل، وبذا لم يفقد التلويح بالإبعاد إلى منزله حدّته أبدًا، وإن كنّا نتطلّع دائمًا في موسم عيد الميلاد لصندوق «التوفي» و«البترسكوتش»[1] الكبير أخرق الغلاف القادم من البيت الّذي على التلّة.

أخذت زيارات العمّ آرثر تقلّ شيئًا فشيئًا حتّى تلاشت، ولم أعاود التفكير في أمره حتّى بلغت.

كنت أتماثل يومها للشفاء من نوبة زكام جعلتني متحفّظًا حدّ الفظاظة في الحديث مع أمّي حين أحدثت جلبة في غرفتي قبل أن تتمنّى لي ليلة سعيدة. 

- أيّها الولد المشاكس، أظنّ أنّ ما تحتاجه فعلًا هو أسبوع في بيت العمّ آرثر.

"أسبوع في بيت العمّ آرثر"، أيّ ذكريات طفولة استدعت تلك العبارة القديمة.

- بالمناسبة يا أمّي، سألتها: "ما سرّ ذلك الرجل الكهل؟".

- سرّ! لا يمكنني القول إنّه كان سرًّا في يوم من الأيّام، بل مجرّد عاثر حظّ جعله عاجزًا عن التعايش مع أيّ أحد.

- لم لا؟

مغتبطة بتلك الذريعة للمكوث لوقت أطول، جلست أمّي على حافّة سريري.

- حسنًا، لقد تزوّج في سنّ مبكّرة وتعايشا مثل قطّ وكلب، لكنّها في النهاية اختفت، وفي ظنّي أنّها هربت مع موظّف مكتب سفريّات. لم تكن بتلك المرأة الطيّبة على أيّ حال، ولحسن الحظّ أنّهما لم يرزقا بالأولاد. بعد ذلك، حسنًا، أخشى القول إنّه غدا مولعًا بطاهيته الّتي هربت ذات يوم وبحوزتها معظم مدّخراته. كانت فضيحة. أظنّه عزم على البقاء عازبًا منذ ذلك الوقت. من حين لآخر كانت تعرّج إحدى أخواته عليه وتدبّر شؤون منزله، لكن لم تمكث أيًّا منهنّ طويلًا. بعد ذلك ظهر زميل دراسة قديم في المشهد، وبدا أنّهما منسجمان ربّما لعامين. ذلك الزميل... كان إخفاقًا آخر، لقد أُغْرِ... غَرِقَ، وقال الناس إنّه كان انتحارًا، ومُذْ ذاك عاش العمّ آرثر بمفرده.

- كم مضى على ذلك؟

- كان ذلك في السنة الّتي أُصِبْتَ فيها بالنكاف[2]... ربّاه كيف يطير الوقت!

- كم عمره الآن؟

- لنرَ. أجرت أمّي بعض الحسابات المعقّدة على أصابعها وقالت: "ألف وتسعمائة وستّون. إثيل توفّيت سنة ألف وتسعمائة واثنين. حوالي ستّين، أغلب ظنّي".

- يا إلهي، لقد بدا لي رجلًا ستينيًّا حين رأيته آخر مرّة، وكان ذلك منذ سنوات.

- لقد هرم مبكّرًا بالفعل، يا للمسكين.

- ولكن ماذا يفعل هناك بمفرده؟

- أوه، عنده امرأة مسنّة تطهو وجباته، ويقرأ بنهم وأظنّه مهتمّ بالرسم.

- هل سبق وكنتِ هناك؟

- هل سبق وكنت هناك؟ لقد ولدت هناك! يا للسذاجة. ولكنّني لم أكن هناك منذ... منذ حادثة الطاهية. كثيرًا ما أتساءل كيف يبدو المكان القديم الآن، لقد سمعت أنّ الزريبة انهارت بالكامل... .

لم نستطرد في الحديث عن العمّ آرثر، لكنّني حلمت به تلك الليلة إحدى الأحلام الطويلة المشوّشة الّتي تأتينا أثناء تماثلنا للشفاء. العمّ آرثر يريني لوحاته، كانت كلّها مرسومة على السقف، وكان عليّ أن أستلقي فوق طاولة الطعام لأراها. لم يفارق تفكيري لعدّة أيّام لاحقة. وحالما تعافيت عقدت العزم على زيارته عبر الطريق المختصرة بجانب التلّة الّتي لا تتعدّى مسافة الثلاثة أميال صعودًا، وهكذا عرجت صاعدًا ذات عصر.

كان صعود التلّة أصعب ممّا تخيّلت. لم أكن قد تعافيت تمامًا بعد، جلست على جدار الحراسة المقام على المدخل ونظرت إلى المنزل. كان مبنًى قديم الطراز من طابقين له شرفة منخفضة ومفتوحة مواجهة للطريق. تعذّر عليّ رؤية الطابق العلويّ بسبب تشابك وكثافة قمم أغصان الأشجار دائمة الخضرة على جانبيّ المدخل. كلّ الشبايبك والأبواب الّتي تمكّنت من إبصارها كانت موصدة، وكان ثمّة قطّة بيضاء تجثو متكوّرة على الشرفة.  

لماذا بحقّ السماء جئت؟ ربّما كانت الكتب، ربّما لأنّني مهتمّ بالرسم أيضًا، لا أدري، ها أنا هنا على أيّ حال. نهضت واقتربت من المنزل. كان ما تحت الأشجار دائمة الخضرة رطبًا ومغطًى بالطحالب، وعلى الرغم من أنّ الساعة لم تتجاوز الخامسة بعد، إلّا أنّ الضفادع شرعت بضبط إيقاعات نقيقها. نهضت القطّة حالما اقتربت من المنزل وأخذت تتمطّط على نحو يثير الرائي.

صعدت العتبات البالية وطرقت الباب بينما كنت أداعب القطّة الّتي بدت بصحّة جيّدة ومرتاحة البال بشكل لافت. انتظرت للحظات ثمّ طرقت مجدّدًا، وأحسست على الفور بعينين تتلصّصان عليّ عبر إحدى رقائق الأباجور المكسورة. تظاهرت بعدم الانتباه واستدرت على نحو يتيح للشمس إظهاري بوضوح أكبر. بعد برهة سمعت مفتاحًا يدور في القفل تبعه صرير باب ينفتح. رغم أنّني لم أره منذ وقت طويل إلّا أنّني تعرّفت عليه في الحال، لا يبدو أنّه قد تغيّر كثيرًا؛ كان حافيَ القدمين ويرتدي زوجًا من القمصان القديمة وسترة بيجاما باهتة، وكان شعره الرماديّ الأشعث يحطّ على جبهته كما كان دائمًا، وبدت ملامحه الوادعة المشوبة بالحزن وقد أفسدها سؤال غير منطوق.

- مرحبًا عمّ آرثر! أنا بيل، لا أظنّك تذكرني؟

- بيل... بيل... طرفت عينه وعبس، "آسف، لكنّي أخشى أنّك نلت منّي".

- أنا بيل... بيل تشرتش.

- تقصد... تقصد أنّك ابن روزا؟ تفضّل، تفضّل. أنا مسرور برؤيتك. حسنًا حسنًا، لم يسبق وأن تعرّفت عليك.

تبعته عبر ممرّ كئيب يقود إلى سلالم متداعية.

-بحذر يا بنيّ، فأنا لا أستخدم هذا الجزء من المنزل كثيرًا. انتبه... لا توجد درجة هنا. حسنًا ها نحن هنا.

انتابتني الدهشة حالما دخلت الغرفة في نهاية السلالم. باستثناء طاولة كبيرة مكدّسة بمتفرّقات من الأوراق والكتب وصناديق الكرتون وصفائح سجائر فارغة في زاويتها القصوى، كانت الغرفة جيّدة التأثيث و مرتّبة نسبيًّا. رفوف الكتب دانية وتذيّل جدرانها زوجين من الأرائك ومقعد طويل، بساط قد عَرَفَ أيّام عزّ خلت وإن لم تخلو بعد من دفء الألوان، وفونوغراف عصريّ من «ماركة فيكترولا» مع رزم من الأسطوانات. شمس الأصيل شقّت طريقها بصعوبة عبر أغصان الأشجار وكادت أن تقتحتم فضاء الغرفة لتضيء لوحتين معلّقتين أعلى رفّ الكتب الأضخم.

كان العمّ آرثر يراقبني عن كثب بينما كنت أستعيد وعيي وأفكاري.

- أعجَبَتْكْ؟

- يجب أن أقول لم السؤال؟ هذا ما تبدو عليه أيّ غرفة في تصوّري.

ابتسم العمّ آرثر ابتسامة عريضة. لاحظت للمرّة الأولى أنّ وجهه اكتسب تعابير حادّة وفكاهيّة على نحو مبهج عندما ابتسم. كنت أشعر بارتياح غامر.

- هل رسمت هذه؟

- هذه؟ يا إلهي! لا... تلك لسيزان والأخرى لغوغان، نسخ مقلّدة بالطبع... ألمانيّة... لكن أليست متقنة؟

وانطلق بالحديث عن الرسم... الانطباعيّة، ما قبل الرفائيليّين، ما بعد الانطباعيّين، وعلى الرغم من أنّي لم أفقه نصف ما كان يحاول أن يخبرني به فقد وجدته مبهرًا. تدريجيًّا توصّلت إلى أنّه قام بشيء من الرسم بنفسه لكنّه لن يريني أيًّا من تصويراته. أعطاني انطباعًا بكونه حيِيًّا وحسّاسًا للغاية. مضى يقدّم الأعذار ليبرّر حالة البيت الرثّة قائلًا إنّه كان يعتزم القيام بشيء ما في وقت ما. بالطبع تذكّر ماما كفتاة صغيرة، "في الحقيقة كانت هذه غرفة نومها في الأيّام الخوالي". اسْتَذْكَرَ كيف أنّه اسْتُدْعِيَ في أحد الأيّام ليحملها على النزول من على السطح "أخشى أنّ السطح لن يصمد معها الآن”، استتبع متأسّفًا[3]، "أعني لو كانت لا تزال فتاة صغيرة". ضحكت، فقد كان وزن أمّي نكتة العائلة.

تكلّمنا عن شتّى الأشياء، وشغّل بعض الأسطوانات لي - حفلة موسيقيّة لبيتهوفن - وبينما كنت أستمع، أحضر إناء خمر وتناولنا شيئًا من الشراب. "عليك البقاء وتناول شيء من الحواضر البيتيّة. سأخبرك ما سأفعله، سأشيّع ابن الطاهية لأمّك حتّى لا يساورها القلق، وسيكون القمر بديعًا الليلة وسينير طريقك أسفل التلّة".

مكثت. أكلنا على «طاولة ماهوغاني» قديمة أرجلها مخلبيّة الشكل في الغرفة المجاورة، وكانت الطاهية، مليحة الروح والصمّاء على نحو غير اعتياديّ، تُخدِّم علينا. كانت ترتدي أقراطًا نحاسيّة صفراء وقبّعة قشّ ضخمة وعريضة. كان العشاء جيّدًا جدًّا، وبعد الكثير من الصراخ والإيماء من جانب العمّ آرثر أَحْضَرَتْ «ليكيور»[4] قدّمه العمّ آرثر في كؤوس «بوني» مشقّقة[5]. في ما بعد عدنا إلى غرفة المعيشة، كان القمر مستديرًا مكتملًا يملؤ الغرفة بالضوء. "أأشعل النور؟ أم هذا جّيد بما يكفي؟".

"إنّه جيّد كفاية"، أجبت. شعرت بسكينة وسعادة على نحو غير اعتياديّ. هبط ضوء القمر على هيئة شريط عريض منعش قاطعًا نهايتيّ البساط في ما أضفتْ نسمة لطيفة لمسة نهائيّة من الرضا على المشهد.

- أتدري، أوشك أن أغبطك يا عمّ آرثر.

شعرت بالنضج على نحو خاصّ، أظنّه كان الشراب و«الليكيور»، والآن، بمطالعة السديم الأزرق لدخان سيجارتي يتلوّى مبتعدًا في ظلال الغرفة الخافتة على نحو آسر، شعرت وكأنّني و العمّ آرثر رفيقان. كان ثمّة شيء من جاذبيّة فريدة وخفّة روح راقتني حيال الرجل الكهل. الأشياء الّتي أحبّها وتحدّث عنها كالموسيقى، الرسم والنوادر الظريفة عن هذا وذاك، ضربت وترًا تداعى ملبّيًا في مكان ما داخلي. كلّ من حادثتهم كانوا عمليّين على نحو بغيض. وبينما كنت أجلس هناك تساءلت إن كنت ربّما يومًا ما، كالعمّ آرثر، سأتوصّل إلى أنّ حياة كهذه مرضية للغاية... من يدري؟

- عمّ آرثر، هل كنت وحيدًا على الدوام؟ أعني وحيدًا بحقّ؟

تنهّد الرجل الكهل. "لا، لا أظنّ ذلك، ليس وحيدًا حقًّا. لا، لا يمكنني قول هذا. البعض خُلِقَ ليعيش وحيدًا وأنا أحد هؤلاء على ما أظنّ". صمت وأشعل سيجارة وقال: "أشعر بحقّ بسعادة أكبر عندما أكون وحيدًا".

فكّرت في بايتي، في كرة القدم وحفلة الرقص الأسبوع القادم... "عجبًا!".

- "ربّما عندما تكون يافعًا... لا، ولكن لاحقًا... حسنًا"، تنهّد مجدّدًا وأكمل: "جرّبت الطريقتين. لا أظنّني كنت سعيدًا أبدًا برفقة أيّ أحد لوقت طويل، بل أفضّل هذه الطريقة".

ظلّ صامتًا لبرهة. فجأة غمرني إحساس بعاطفة جيّاشة حيال الرجل الكهل، وعقدت العزم على أن تكون هذه الأولى من عديد أمسيات برفقته. أحسست بأنّني كنت نوعًا ما على مشارف وجود مغاير أشدّ إثارة وواقعيّة من الوجود الّذي عشته، وشعرت أنّه لم يكن نافرًا من رفقتي، على الرغم من كلّ ما قاله.

- عرفت رجلًا ذات مرّة..."، استهلّ ثمّ توقف وقال: "لكنّني لا أجيد سرد الحكايا".

- أرجوك.

- فقط ستظهر لك ما قد يفعله البعض لـ... أجل، البعض خُلِقَ ليعيش وحيدًا. هذا الرجل، سأسمّيه جونز..."، توقّف وضحك ضحكة مكتومة. "أتدري، لربّما تكون حكايتي أنا. حسنًا... كان جونز مع بداية حكايتي متزوّجًا لأربع أو خمس سنوات وكان تعيسًا للغاية. كانت زوجتة من النوع الثرثار وذات حميّة لفعل هذا ومن ثمّ فعل ذاك حالما يُنجَز هذا. ما أن يفرغ جونز المسكين من ترتيب أحواض الحديقة حتّى يتعين عليه تلميع الأثاث. تعرف هذا النوع على ما أتوقّع؟".

أومأت برأسي بحصافة سنيني الخمس والعشرين.

- وذات يوم تَرَكَتْهُ... أو تركها، لست متأكّدًا، لكنّه غدا حرًّا، حرًّا لفعل ما يروق له. قرّر أنّ الزواج لم يخلق له. لا يا سيّدي، يستطيع أن يفعل ما يحلو له فلا زوجة لتثرثر ولا أحد يعرّج عليه لتبادل الأحاديث في الوقت الّذي يريد أن يترك وشأنه، لا أحد يذكّره بما لا بدّ من فعله، ما يتعيّن فعله وما يجب فعله. هذا يدعو للبهجة. كان لا مبال مرحًا وطليقًا. ثمّ ذات يوم حدث شيء مروّع. ظهر رفيق دراسة قديم سنسمّيه سميث. وكان سميث من أولئك الأشخاص عاثري الحظّ الّذين لا يشعرون بالرضا ما لم يفعلوا شيئًا كالرقص في مكان ما، أو الأكل في مكان ما، أو ممارسة الجنس مع إحداهنّ، وكان في غاية التعاسة إن تُرِكَ بمفرده لخمس دقائق. بدأ الشقاق بينهما، وحدث أنّه أسرف قليلًا؛ في البداية امتدّت يده لأموال أحدهم وسُوِّيَ ذلك، ولاحقاً اعْتُقِلَ بتهمة القتل ولم يتحصّلوا على أدلّة كافية لإدانته، لكنّ ذلك كان النهاية. نُبِذَ من كافّة أصدقائه القدامى ولم يستطع الذهاب إلى أيّ مكان أو فعل أيّ شيء. الصدمة والفضيحة قتلتا أمّه المسكينة. كان يائسًا. سعى وراء صديقه القديم جونز، أيسمح له بالمكوث عنده؟ كان مذعورًا وغايته أن يحظى بصحبة أحدهم. كان جونز من النوع العطوف، وعلاوة على ذلك لم تكن لديه الجرأة لقول لا، وهكذ بقي سميث.

تابع العمّ آرثر: "في البداية لم يكن الأمر سيّئًا. كان سميث سعيدًا جدًّا لشعوره أنّه لم يكن منبوذًا كلّيًّا، كان طيّبًا نوعًا ما. بعبارة أخرى، كان بعيدًا عن شؤون جونز معظم الوقت. على العشاء كان أَميَلَ إلى كونه مصدرًا للإزعاج، يتحدّث عمّا يفعله من وقت لآخر في لعبة الكريكيت أو كرة القدم أو شيء من هذا القبيل، ثمّ يسرف في الشراب أحيانًا. وبعد أن أصبح عاجزًا عن الاقتراب من فتيات المجتمع الراقي، اكتشف أنّ فتيات القرية يشعرن بالإطراء من محاولاته للتقرّب منهنّ.

لم يمانع جونز، فحياة سميث تخصّ سميث. لكن، ولسوء الحظّ، حدث ذات ليلة أن مضى سميث لبعض شأنه، وإذا به يطلّ برأسه في خيمة جماعة إحيائيّة[6] وحدث أن أُنْقِذَتْ روحه. دعني أخبرك يا بنيّ، لا شيء أسوأ من السكن مع روح أُنْقِذَت، أي إن حدث وكانت كروح سميث. روح سميث لم تمنحه راحة وكانت تذكّره على الدوام بكلّ آثامه الماضية. كان الأمر على ما يرام طالما تعلّق الأمر بسميث، و لكن عندما بدأت روح سميث يساورها القلق بخصوص روح جونز بدأت المتاعب.

أكمل العمّ آرثر: "كان سميث يطلّ أيّام الأحد بعد اجتماعات الصلاة بكامل أناقته ويبدو كما لو أنّه كان في مقابلة مع نِك العجوز[7]، ليجد جونز يرتدي ملابسه البيتيّة ويضع شراب الروم والزنجبيل بجانب مِرْفَقِه بينما يقرأ ويدخّن غليونه.  كان يجلس يطالعه ويتأوّه فحسب. بعد برهة كان يصعد للطابق العلويّ وبعدها يشرع بالصلاة بصوت عال. أخبرني جونز أنّه من بين كلّ ما يمكن أن يوقظ خواطر الشروع في القتل عند أحدهم لا شيء يضاهي صوتًا لا تكترث له يؤدّي الصلاة عنك. بعد أحدين أو ثلاثة آحاد كتلك، لم يعد جونز يطيق الوضع وأخبره أنّ عليه إمّا أن يهجر صلواته أو يهجر المنزل. لقد مكث هناك ما يربو على العام وروحه أُنْقِذَت، وبهذا يمكنه البدء بحياة جديدة.

توقّف العمّ آرثر ليبحث عن صفيحة السجائر.

- وهل فعل؟

- لم يفعل. أخذ سميث يبكي كطفل. لا يقوى، لا يقوى على الذهاب والعيش بمفرده في مكان ما. ومن ثمّ... ثمّ اعترف بارتكابه لجريمة القتل. لا يقوى على التعايش وحيدًا مع هكذا حقيقة. إذا ما استيقظ في الليل وشعر أن لا أحد بجانبه، لا أحد يعرفه حقًّا، فإنّه متأكّد إمّا سيجنّ أو سيقتل نفسه. أتصدّق أنّه أقسم على أن لا يذهب لأيّ اجتماع صلاة إذا ما تركه جونز يبقى؟ وأفسح جونز الطريق مجدّدًا لمشاعره السمحة والجبانة.

توقّف ليشعل سيجارته.

- ألم يكن يخشى أنّ جونز قد يشي به؟

- إن فعل فتلك الخشية غلبتها خشية أكبر من أن يكون وحيدًا، لم يطق التصالح مع واقع الوحدة، الوحدة الإنسانيّة الجوهريّة. وعليه بقي سميث، ولم يعد يقلق بشأن روحه، وبدا كأنّ له غاية واحدة في الحياة، وهي أن يُظهِرَ لجونز مدى امتنانه لطيبته في السماح له بالبقاء. إذا ما أخذ جونز يقرأ أو يكتب أو يحاول أن يغفو، وكان يدرك أنّ سميث يراقبه، ليس بنيّة سيّئة كما تعلم، بل مجرّد مراقبته بتفان على نحو تفاني الكلاب، كان الأمر محرجًا ورهيبًا. أحيانًا كان جونز يفقد أعصابه ويطلب منه أن يتركه لوحده، فكان يغادر باستكانة. وفي المساء بعد العشاء إذا ما أراد جونز أن يقرأ وينعم بالغليون، كان سميث يأخذ بالسير ذهابًا وإيابًا في الخارج على مقربة من النافذة بوقار وهدوء مثل فرد في «الحرس الإمبراطوريّ». إنّه لأمر فظيع أن تستمع لخطوات أحدهم ذهابًا وإيابًا على هذا النحو. الرتابة المربكة والخواء الروحيّ المصاحب لهذا ينخرك حتّى اللب.

أكمل العمّ آرثر: "ذات مساء ضاق جونز بالأمر ذرعًا. "اللعنة يا سميث، لم أعد أطيق الأمر. عليك المغادرة ولن أكون مسؤولًا. عليك المغادرة غدًا صباحًا، إذا لم تكن قادرًا على العيش وحيدًا لم لا تتزوّج أو أيّ شيء؟ لتذهب وتعيش مع امرأة، سأعطيك المال، أيّ فتاة في القرية...". لكنّ سميث صرخ فزعًا وفرّ خارجًا.

عندما ذهب جونز إلى فراشه، لم يكن سميث قد عاد بعد. خلد جونز إلى النوم، وفي منتصف الليل استفاق وسمعه في الغرفة المجاورة. كان يصلّي مجدّدًا؛ يصلّي بإخلاص وصخب متوسّلًا أن تطهّر روح صديقه العزيز جونز من كلّ الخواطر الفاسقة والآثمة. مرارًا وتكرارًا، مرارًا وتكرارًا مضى الصوت. جونز كان شخصًا ضئيلًا شديد الهدوء، أنا أعرفه جيّدًا، لكنّه أخبرني أنّ شيئًا ما انفجر داخله، فنهض واتّجه مباشرة إلى غرفة سميث وخنقه".

- ماذا؟

- خنقه.

- تعني قتله؟

- نعم، قتله. في ما بعد كان جونز آسفًا بالطبع، لكن لم يكن بمقدوره إبطال ما قام به. حسنًا، كان جونز في وضع حرج وتعيّن عليه التحرّك والتحرّك سريعًا. في تلك الأيّام كانت لديه سيّارة... أيّام سيّارة الفورد القديمة المرتفعة، وهكذا تمكّن بطريقة ما من جرّ الجثّة للأسفل ووضعها في السيّارة. كانت الساعة الثانية أو الثالثة صباحًا ولا أحد هناك. سلك جونز الطريق أسفل المنحدر بمحاذاة ثريكورنر وألقى بسميث في البحر.

- ألم يعثروا على الجثّة؟ شعرت فجأة بببرودة شديدة.

- بعد أسبوع تقريبًا. كانت الأسماك قد نالت منه. تمّ التعرّف عليه، وفي الحقيقة كنت أحد الأشخاص الّذين تعرّفوا عليه.

ألحّ عليّ القول، لا أدري لماذا ولكنّي قلت: "و... أَوَلَمْ يشكّ بك أحد أبدًا، عمّ آرثر؟"

تنهّد وقال: "أخبرتك أنّي لا أجيد سرد الحكايا. حسنًا، أظنّ أنّه كان عليّ أن أخبر أحدهم في وقت ما. الغريب أنّني لم أشعر بأدنى وخز بالضمير. سأقوم بفعل الشيء عينه غدًا في نفس الظروف. الأمر وما فيه أنّه من غير المنصف أنّ أحداً لم يعلم بما حدث".

نهضت وأشعلت النور.

- أتظنّ أنّه كان منصفًا أن تخبرني؟

- آسف يا بنيّ. ربّما لا، لكنّني لا أدري. لقد رُقتَنِي لحظة رأيتك عبر الأباجور وأردت أن أراك مجدّدًا. لم أشأ أن تراودك أيّ هواجس بخصوصي، لكنّي أرى أنّ الحظ لم يحالفني. البعض خُلِقَ ليعيش وحيدًا. سأرافقك إلى الأسفل، القمر ساطع الآن وتستطيع نزول المنحدر بيسر.

تعذّر عليّ الكلام؛ تبعته إلى أسفل الدرج وتركته بوداع مُتَمتَم.

لم أره مجدّدًا. في العام التالي تقدّمت لخطبة بايتي و تزوّجنا بعدها بفترة وجيزة. كان زواجنا فاشلًا منذ البداية، وقد تطلّقنا في العام الماضي. مات العمّ آرثر منذ أسبوع مضى وقد سمّاني وريثه الوحيد. 

كان لديه بعض المال، وأعتقد أنّني سأرمم المنزل العتيق وأذهب إلى العيش هناك. هذه الفكرة تثير اهتمامي.

البعض، على ما أظنّ، خُلِقَ ليعيش وحيدًا.

 

* فرانك كوليمور (1893 - 1980) وُلِدَ في سانت مايكل في باربادوس الواقعة في بحر الكاريبيّ. كان محرّرًا أدبيًّا، مؤلّفًا، شاعرًا ورسّامًا ولُقِّبَ بـ «رجل الفنون الباربادوسيّ»، دَرَّس في «مدرسة كامبرمير» لمدّة خمسين عامًا حيث سعى إلى تشجيع الكتّاب وتحفيزهم، ومن بين من درّسهم جورج لامينغ وأوستن كلارك.

 


إحالات

[1] «البترسكوتش» نوع من الحلوى يتمّ إعداده بنفس طريقة إعداد ومكوّنات «التوفي» [السكّر و الزبدة] وتختلفان في درجة الطبخ. «التوفي» يتمّ طبخه حتّى مرحلة القسوة القابلة للكسر،  في حين يطبخ «البترسكوتش» [butterscotch] حتّى مرحلة الطراوة القابلة للعلك والمضغ.

[2] النكاف [Mumps]، مرض فيروسيّ معدي يؤدّي إلى التهاب الغدد النكافيّة المتموضعة بجانب الأذن والمسؤولة عن إفراز اللعاب.  

[3] علامة الوقف حسب النسخة الأصليّة.

[4] «الليكيور» شراب مُسكِر حلو الطعم و ذو رائحة عطرة.

[5] «كؤوس البوني» كؤوس زجاجيّة صغيرة تستخدم لتقديم المشروبات الروحيّة، سعتها الصغيرة تتفاوت من بلد لآخر و تتراوح في حدود الـ 25 ملل.

[6] «الإحيائيّة» حركة دينيّة صحويّة تبرز وتخفت على فترات، وتنشط هذه الحركات في أوقات الأزمات مبشّرة بأنّ العودة إلى الدين وإحياء الشعائر مفتاح الخروج من الأزمات الراهنة. شهدت معظم الأديان حركات إحيائيّة أو صحويّة، وعرفت المسيحيّة عدّة حركات إحيائيّة في أزمان وجغرافيّات مختلفة أبرزها تلك الّتي عاشها المجتمع الأمريكيّ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على مدار سنوات متقطّعة.

[7] «نك العجوز [Old Nick] تشير في التقليد المسيحيّ إلى الكنية الّتي يُكنَّى بها الشيطان.

 


 

أسماء حسين

 

 

 

أستاذة مساعدة في قسم الأدب والثقافة الإنجليزيّة في جامعة «غوتنغن» الألمانيّة. مهتمّة في مجال دراسات أدب الحداثة وما بعد الحداثة، وأدب ما بعد الاستعمار. إضافة إلى تدريسها للمسرح والرواية من القرن السادس عشر وحتّى القرن الواحد والعشرين.

 

 

التعليقات